صحة صدور الأحكام التحكيمية “باسم الشعب” … مقارن مع اجتهاد القضاء المصري بهذا الخصوص
| المحامي الأستاذ - أحمد وليد منصور
ماجستير بالقانون من جامعة باريس الثانية
عضو لجنة تعديل قانون التحكيم بغرفة التجارة الدولية
عضو بغرفة دبي للتحكيم التجاري الدولي
ميز دستور الجمهورية العربية السورية، ثلاث سلطات تعمل بالتوازي والتعاون فيما بينها لضمان سيادة الدولة واستقلالها، ومن المعروف أن مبدأ فصل السلطات وعدم طغيان أحدها على الأخرة، مرجعه حسب “مونتسكيو” الوصول إلى درجة عالية من الدمقراطية بحيث تعمل كل سلطة باستقلال عن السلطة الأخرى، والتي تعمل جميعها في خدمة الشعب ولمصلحة الشعب.
إلا أنه وعلى الرغم من ترسيخ مبدأ “فصل السلطات” إلا أن هناك منبع واحد تستمد منه هذه السلطات قوتها ومناعتها، ويختلف هذا المنبع حسب النظام المتبع في كل دولة، ففي الأنظمة الجمهورية يكون الشعب هو مصدر السلطات، وعليه تكون السيادة للشعب وتعمل كافة السلطات تحت مظلة هذه السيادة، أما في الأنظمة الملكية والأنظمة الأميرية تكون إرادة الملك أو الأمير لها السلطة العليا في الدولة، التي تستمد باقي السلطات قوتها منها.
وبرأينا، أننا لو قرننا أن نجيب على السؤال الجدلي المستمر بحسب الدستور السوري الحالي، أي سلطة من السلطات الثلاث “التشريعية – التنفيذية – القضائية” هي السلطة الأعلى والأكثر قوة، لوجدنا أن معظم الفقهاء قد ميعوا هذا الجواب، وأشاروا إلى تساوي هذه السلطات فلا تطغى إحداها على الأخرى، إلا أنه، وبرأينا الشخصي، لو أمعنا النظر بآلية عمل هذه السلطات، لوجدنا أن الدستور قد أعطى للسلطة القضائية اليد العليا على السلطات الأخرى، وذلك لأسباب عديدة، أهمها، أن للقضاء دور بارز وهام وأثر عظيم بعمل السلطة التشريعية، ومن المعروف أن التشريع غالباً مايصدر أو يعدل بناءً على اقتراح من رجالات السلطة القضائية، الذين يواجهون حالات إما لم تقنن أو حالات مقننة ولكن يشوبها الغموض، فيجتهد القضاء ويستمر على اجتهاده، حتى يتحول هذا الاجتهاد إلى نطفة تشريع تنتظر الوقت المناسب لتولد تشريعاً من رحم السلطة التشريعية. هذا على صعيد السلطة التشريعية، أما على صعيد السلطة التنفيذية، فالقضاء وعلى الرغم من هيئات التفتيش الموجودة بالدولة، إلا أنهُ يبقى للقضاء الكلمة الطوبى والأولى بتجريم أو عدم تجريم من يعرض عليه من رجالات السلطة التنفيذية، فلهُ تنتهي المرجعية الرقابية التي تقرر العقوبة في حال ثبت لها الجرم، أو البراءة في حال انتفاء الجرم، ولهُ الكلمة الأولى بقضائه الإداري، بإجازة أو عدم إجازة عقد إداري، وغيرها من الاختصاصات الرقابية التي يقوم بها القضاء في سبيل رقابته على رجالات وأعمال السلطة التنفيذية.
والأمر الأهم، بل الأكثر أهمية، هو ما أناطه الدستور للسلطة القضائية في الدولة، وأعطى هذه السلطة حقاً استثنائياً بأن تصدر أحكامها باسم أعلى سلطة في الدولة، وهي سلطة الشعب، فبحسب المادة /138/ من الدستور تصدر الأحكام باسم الشعب العربي في سورية، أي أن القاضي عندما يصدر حكمه، يصدره باسم أعلى سلطة في البلاد وهي الشعب، وكون الاحكام تصدر باسم الشعب العربي في سورية، فقد اعتبر بالمادة /2/ من ذات المادة /138/ أن من يمتنع عن تنفيذ الأحكام القضائية أو تعطيل تنفيذها مجرم ويعاقب وفق أحكام القانون.
وهنا تبرز قوة السلطة القضائية، والأحكام التي تصدر عن القضاة، كون القاضي هو الوحيد من رجالات الدولة المخول بأن يصدر أحكامه باسم الشعب العربي في سورية، وعلى غرار ذلك، فلايحق لأي سلطة تشريعية أو تنفيذية أن تصدر القوانين أو التشريعات أو القرارات وغيرها باسم الشعب العربي في سوريا.
ومن هذه المقدمة التي لابد منها، للعروج على واقعة مهمة جداً، وهي هل من صلاحية المحكم أن يصدر أحكامه باسم الشعب العربي في سورية؟؟
فبالعودة إلى أحكام المحاكم السورية، نجد أن هذه المحاكم قد جعلت من ترويسة الحكم التحكيمي باسم الشعب العربي في سوريا، سبباً من أسباب البطلان، أو رد دعوى الاكساء، وذلك، حيث إنها اعتبرت ذكر هذه العبارة من النظام العام، وتثيره المحكمة من تلقاء نفسها، ونستغرب هذا التوجه من محاكم الاستئناف ومحكمة النقض الناظرة بالقضايا التحكيمية، كيف أنها تخالف الدستور، وتعطي المحكم سلطة القاضي، وأحكام التحكيم قوة الحكم القضائي، وهذا على خلاف الدستور، وعلى خلاف القانون، وعلى خلاف رغبة المشرع أصلاً.
فالحكم التحكيمي، هو حكم وإن كان يصدر مبرماً وملزماً للأطراف، إلا أنه لايتمتع بقوة الحكم القضائي، لانتفاء صفة القاضي عمن يصدره أولاً، ولصدوره خارج محاكم الدولة ثانياً، وبالتالي ليس له القوة الجبرية للأحكام المكتسبة الدرجة القطعية التي تصدر عن قضاء البلاد.
وهذا مانصت عليه المادة /53/ من قانون التحكيم، حيث جاء فيها: ((تتمتع أحكام المحكمين الصادرة وفق أحكام هذا القانون بحجية الأمر المقضي به، وتكون ملزمة وقابلة للتنفيذ تلقائياً من قبل الأطراف، أو بصفة إجبارية إذا رفض المحكوم عليه تنفيذها طوعاً، بعد إكسائها صيغة التنفيذ)).
وعليه، فإن عنصر التنفيذ الجبري لايكون، إلا بعد عرض الحكم التحكيمي على القضاء، الذي يسبغ على هذا الحكم الصفة الرسمية، ومن ثم يصدر قراره بإكساء هذا الحكم باسم الشعب، إعمالاً لأحكام الدستور، وليصبح هذا الحكم قابلاً للتنفيذ جبراً عن طريق دوائر التنفيذ.
إذاً، فعلة إصدار الأحكام باسم الشعب العربي في سوريا، مرده الأول والأخير، هو مامنحهُ الدستور لهذه السلطة، حتى تكون لأحكامها قوة بمواجهة باقي السلطات في حال رفضت هذه السلطات تنفيذه، فجعل من هذا الرفض أو الامتناع جريمة يعاقب عليها القانون.
وهنا، لابد للمحاكم في سوريا، أن تتحرى أكثر قبل أن تبطل أحكاماً لعلة عدم صدورها باسم الشعب العربي في سوريا، فالحكم التحكيمي لايصدر عن رجال السلطة القضائية، وليس للحكم صفة الحكم القضائي، بل على العكس إن صدور الحكم التحكيمي باسم الشعب العربي في سوريا هو الذي يجب أن يعتبر بمثابة مخالفة للنظام العام.
وما أثار حديثي حول هذا الموضوع، هو ماطرحه المُحكم التونسي الصديق الأستاذ أحمد الورفلي، حيث أشار الأستاذ الورفلي إلى حكم صادر عن محكمة الاستئناف بالقاهرة، الدائرة الثامنة تجاري، حيث قامت هذه المحكمة بابطال حكم تحكيمي لورود عبارة باسم الشعب العربي في مصر بديباجته، وذلك وفقاً للتعليل التالي:
((لمّا كان ما تقدم وكان حكم التحكيم الطعين قد أورد عبارة (باسم الشعب) في باكورة ديباجته متمثلا في ذلك الأحكام القضائية، فإنه على هذا النحو يكون قد خالف الدستور والقانون، مخالفا للنظام العام على نحو ما تنطبق عليه الفقرة الثانية من المادة 53 من قانون التحكيم 27 لسنة 1994 المحددة لأسباب بطلان حكم التحكيم وهو الأمر المخالف للنظام العام في جمهورية مصر العربية، مما يبطل الاجراءات التحكيمية ويؤدي بذاته إلى بطلان حكم التحكيم.
ولا يغير من هذا النظر ما درج عليه بعض الفقه من أن عدم ذكر عبارة “باسم الشعب” لا يبطل الحكم التحكيمي، وكأنه -وبمفهوم المخالفة- فإن ذكر تلك العبارة يحصّن الحكم من البطلان. فالمحكمة ترى عكس ذلك النظر بأنّ المحاكم وحدها وحسبما أسلفت المحكمة هي التي خوّلها الدستور والقانون سلطة اصدار الأحكام باسم الشعب، وليس لغير محاكم الدولة أن تصدر قرارها أو أحكامها بتلك العبارة، وذلك جرى عليه العمل بمحاكم بعض الدول الشقيقة بذكر عبارات مماثلة تعبّر عن سلطة الدولة في إصدار الأحكام. ففي المملكة الأردنية الهاشمية تصدر الأحكام “باسم الملك”، وفي الكويت تصدر الأحكام “باسم الأمير” وهكذا. فمن غير المتصوَّر -والحال كذلك- أن تصدر أحكام التحكيم في تلك الدول باسم الملك أو الأمير مثلا وهو ما يقطع في دلالته بأن تصدُّر الحكم بعبارة “باسم الشعب” هو من اطلاقات المحاكم التي تمثّل سلطة الدولة وليس لما عداها من هيئات تحكيم أو خلافه أن تسطو على تلك العبارة لتصدّر بها أحكامها. وتنوّه المحكمة إلى أن هذا النظر لا ينال اطلاقا من حجية أحكام التحكيم الموضوعية وقوّتها فيما قضت به على النحو الذي نصت عليه القوانين والأحكام، الأمر الذي تخلص معه المحكمة الى القضاء ببطلان حكم التحكيم الطعين لمخالفته النظام العام في جمهورية مصر العربية)).
ونحن، نوافق رأي الأستاذ أحمد الورفلي بتأييد عدم ضرورة ذكر عبارة “باسم الشعب” في ديباجة الحكم التحكيمي، للأسباب التي ذكرناها سابقاً، ونؤيد ما ذهبت إليه محكمة استئناف القاهرة بإبطالها القرار التحكيمي الذي يصدر باسم الشعب في ديباجته، وذلك لمخالفة هذا الحكم لأحكام الدستور، ولأن المحكم كما جاء بوصف محكمة استئناف القاهرة “يسطو” على صلاحية القضاء الوطني الذي أناط به الدستور فقط أن يصدر أحكامه باسم أعلى سلطة في الدولة وهي سلطة الشعب.
يمكنكم متابعة الوثائق أدناه، مع الرجاء الانتظار للحظات ريثما يتم تحميلها داخل الموقع:
صحة صدور الأحكام التحكيمية باسم الشعبحكم تحكيم محكمة القاهرة
‐—————‐—————————————
| الأستاذ أحمد وليد منصور
ماجستير بالقانون من جامعة باريس الثانية
عضو لجنة تعديل قانون التحكيم بغرفة التجارة الدولية
عضو بغرفة دبي للتحكيم التجاري الدولي