مقالات وأبحاث

الشرط التحكيمي … بين عدم قبول المحكمة أو عدم اختصاصها

| المحامي الأستـاذ - أحمد وليد منصور

مقدمة

الاختصاص في القضاء هو، ما لكل محكمة من المحاكم من سلطة القضاء، تبعاً لمقرها، أو لنوع القضية، وهو (نوعي) إذا اختص بالموضوع، و(محلي) إذا اختص بالمكان[1].

وتستمد المحاكم اختصاصها، من القوانين والأنظمة النافذة، التي تحدد بدورها الاختصاص المحلي والنوعي لكل محكمة من المحاكم. وعليه، إذا قضت محكمة بموضوع دعوى ليس من اختصاصها بل من اختصاص محكمة أخرى، اعتبر قرارها معدوماً، ولا ينتج أي أثر في الدعوى التي قضت بها[2].

أما عدم قبول الدعوى من قبل المحكمة، فهو لا يعني أن المحكمة غير مختصة بالنظر في الدعوى، بل هو تطبيق لإرادة طرفي العقد، إذا ما تم الاشتراط فيه على إحالة النزاع إلى هيئة تحكيم مستقلة للنظر فيه، وكان هذا الاشتراط غير مخالف للنظام العام، عندها يتوجب على المحكمة أن تحكم بعدم قبولها للدعوى لا بعدم اختصاصها، لأنها في الأصل مختصة في النظر بالدعوى، إلا أنها أعلنت امتناعها عن النظر فيها ترجيحاً لمبدأ سلطان الإرادة المستمد من نص القانون، الذي قد يعطي لأطراف النزاع مزية عرض نزاعهم على هيئة تحكيم للنظر فيه.

فقد يشترط أطراف العقد إحالة أي نزاع ينشأ فيما بينهم بموجب هذا العقد إلى هيئة تحكيمية، عندها تمتنع المحكمة المختصة أصلاً للنظر في هذه النزاع عن رؤية الدعوى، وتعلن عدم قبولها للدعوى لوجود شرط تحكيمي في العقد. هذا من حيث المبدأ العام، أما من ناحية التطبيق العملي، فهو ما سنتعرض له في مقالتنا هذه.

الدفع بوجود شرط تحكيمي وعدم قبول القاضي للدعوى

نصت المادة /10/ الفقرة /1/ من قانون التحكيم السوري، على أنه يتوجب على المحكمة التي ترفع أمامها دعوى في مسألة أبرم بشأنها اتفاق تحكيم، أن تحكم بعدم قبول الدعوى، إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل إبدائه أي طلب أو

دفاع في الدعوى، مالم يتبين لها أن الاتفاق باطل أو ملغى أو عديم الأثر أو لا يمكن تنفيذه.

يضعنا النص السابق، أمام مسألتين هامتين، الأولى هي الدفع بوجود الشرط التحكيمي، ولزوم تقديمه كطلب أو دفع أولي من قبل المدعى عليه، والثانية أن المحكمة في طور إبداء هذا الدفع أو الطلب يجب عليها ألا تمتنع مباشرة عن النظر برؤية الدعوى، بل عليها التحقق من المانع الذي أخرج هذه الدعوى من ولايتها، والمانع هنا هو الشرط التحكيمي، فعليها أن تتحقق من صحته ووجوده، فإذا ما تبين لها أن هذا الشرط باطل أو ملغى أو معدوم أو غير قابل للتنفيذ، فعليها أن تبقي هذه الدعوى تحت ولايتها.

أولاً- الدفع بعدم قبول الدعوى

يتوجب على المدعى عليه، إذا ما رفعت ضده دعوى متعلقة بمسألة كان قد اشترط مع خصمه بها على اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لحل المنازعات فيما بينهما، أن يدفع مباشرة بوجود هذا الشرط أمام المحكمة الناظرة بالدعوى، وأن يطلب من المحكمة عدم قبول الدعوى.

وهذا الدفع والطلب ليسا من النظام العام، أي أنه يتوجب على المدعى عليه إثارتهما ابتداءً قبل أي دفع أو طلب آخر، ولا يجوز للمحكمة إثارته من تلقاء نفسها، فإذا ما تقدم المدعى عليه بطلبات أو دفوع متعلقة بموضوع النزاع أو بشكله غير الدفع بوجود الشرط التحكيمي والطلب بعدم قبول الدعوى، يعتبر أنه قبل ضمنياً بالتنازل عن حقه باللجوء إلى التحكيم، ولم يعد بإمكانه إثارة الدفع بوجود الشرط التحكيمي لاحقاً.

ثانياً – صلاحية المحكمة عند عدم القبول

إن المحكمة في طور نظرها بدعوى متعلقة بمسألة مشترط بها على اللجوء إلى التحكيم، وأثار المدعى عليه هذا الدفع، عليها أولاً أن تنظر بهذا الشرط المانع لها من النظر في الدعوى، فتبحث بصحة الشرط إذا كان باطلاً أو ملغى أو عديماً أو غير قابل للتنفيذ، وهذا يعود لأن المحاكم الوطنية يجب ألا تتنازل عن النظر في دعوى من اختصاصها تنفيذاً لإرادة الأطراف، قبل أن تبحث بصحة هذه الإرادة، فقد تكون هذه الإرادة مخالفة للنظام العام أو متعلقة بمسائل لا يجوز التحكيم فيها، أو يكون شرط التحكيم باطلاً، وبرأينا أنه يتوجب على المحكمة عند إعلان عدم قبولها للنظر في الدعوى لوجود الشرط التحكيمي، أن تذكر في حيثيات قرارها أنها بحثت بصحة هذا الشرط ووجدت أن الشرط صحيحاً، وهذا ما يتلافاه معظم السادة القضاة في قراراتهم، لأن البحث بهذا الأمر وجوبي، حيث نصت المادة أنه يجب على المحكمة ……. مالم يتبين لها، وهذا التبيان مرجعه شرط وجوبي بقبول الدعوى في حال تبين لها أن الشرط باطل أو ملغى أو عديم الأثر، وهذا الأمر تثيره المحكمة من تلقاء نفسها كونه متعلق بالنظام العام، وهو يمس قواعد الاختصاص النوعي للمحكمة التي هي أصلاً من النظام العام.

وخطأ آخر تقع به معظم محاكمنا، وهو، أنها تعلن عدم اختصاصها عن النظر في الدعوى عند إثارة دفع بوجود شرط تحكيمي في العقد موضوع النزاع من قبل المدعى عليه، بدلاً من إعلانها لعدم القبول، وقد تصدت محكمة النقض ومن ثم الهيئة العامة لمحكمة النقض لهذا الموضوع.

ففي إحدى الدعاوى، التي رفعت أمام محكمة البداية المدنية في اللاذقية، من (محمد) على (فادي) بطلب تثبيت بيع عقار كان (محمد) قد اشتراه من (فادي)، حضر هذا الأخير إلى المحكمة المذكورة، وتمسك بأن العقد المبرم فيما بينه وبين (محمد) يتضمن في المادة السادسة منه شرطاً تحكيميًّـا، وعليه على المحكمة أن تتوقف عن النظر بالدعوى لوجود هذا الشرط.

أصدرت محكمة البداية في اللاذقية قرارها برد الدعوى لعدم الاختصاص لوجود شرط تحكيمي، وترقين إشارة الدعوى الموضوعة على صحيفة العقار بناءً على ذلك، وأيدتها بما ذهبت إليه محكمة الاستئناف في اللاذقية.

إلا أن (محمد) طعن بالقرار المذكور أمام الغرفة المدنية لمحكمة النقض، طالباً الإبقاء على مفاعيل إشارة الدعوى الموضوعة على صحيفة العقار ضماناً لوجود حقوق للأطراف.

اجتهدت محكمة النقض بهذا الخصوص بقرار تتلخص حيثياته بما يلي:

((حيث أن المدعى عليه تمسك بالشرط التحكيمي كأول دفع له، مما حدا بالمحكمة إلى الأخذ بهذا الدفع، وهو عمل صحيح في القانون، غير أن الذي هو غير صحيح ما قضت به المحكمة في منطوق قرارها ذلك أن المادة العاشرة من قانون التحكيم رقم /4/ لعام /2008/ قد أوجبت على المحكمة بمثل هذا الحال أن تقرر عدم قبول الدعوى وليس ردها لعدم الاختصاص.

وحيث أن ذلك يفيد بأن تقرير عدم قبول الدعوى لا تأثير له على التدابير التحفظية التي تم اتخاذها خلال سير الدعوى ومنها إشارة الدعوى العينية العقارية والتي هي أصلاً وبحسب الفقرة /3/ من المادة /3/ من قانون التحكيم هي من اختصاص القضاء العادي ولو أن الدعوى العينية منظورة أمام الهيئة التحكيمية. ذلك أن قضاء التحكيم هو قضاء موضوعي بحت فلم يعطه المشرع صفة قاضي العجلة، وحيث أن المحكمة مصدرة القرار الطعين قد أهملت ذلك كله فجاء قرارها عرضة للنقض.

لذلك تقرر نقض القرار المطعون فيه موضوعاً والحكم بعدم قبول الدعوى إعمالاً لشرط التحكيم))[3].

لم يقتنع (فادي) لما ذهبت إليه الغرفة المدنية بمحكمة النقض، فقرر مخاصمتها، وتقدم بدعوى مخاصمة أمام الهيئة العامة لمحكمة النقض، الذي أصدرت قرارها بناءً على الحيثيات التالية: ((وحيث أن ذهاب الهيئة المخاصمة في تعليل قرارها المخاصم بنقض القرار المطعون فيه والحكم بعدم قبول الدعوى لوجود شرط التحكيم هو قول سديد إعمالاً لنص المادة /10/ من قانون التحكيم. إلا أن ما انتهت إليه الهيئة المخاصمة في حيثيات قرارها من أن عدم قبول الدعوى لا تأثير له على التدابير التحفظية التي اتخذت خلال سير الدعوى ومنها إشارة الدعوى العينية العقارية وبقاء آثارها، هو اتجاه مغاير للأصول والقانون ولا يأتلف معه، إذ لا يجوز أن تبقى إشارة الدعوى سارية المفعول بعد حسم الدعوى، سواء أكان الرد لعدم الاختصاص (كما هو الحال بهذه الدعوى) أو لعدم القبول لوجود الشرط التحكيمي، باعتبار أن تعبير عدم قبول الدعوى الوارد في قانون التحكيم هو تعبير مرادف من حيث الآثار القانونية لتعبير رد الدعوى لعدم الاختصاص، سواء أكان ذلك لعدم الاختصاص الموضوعي أو الولائي، كما أن اتكاء الهيئة المخاصمة في تبرير ما ذهبت إليه لجهة بقاء إشارة الدعوى على أن وضعها كان ابتداء من قبل القضاء العادي وأن هيئة التحكيم لا تملك وضعها في غير محله القانوني، باعتبار أن المادة /3/ من قانون التحكيم أعطت محكمة الاستئناف التي يجري التحكيم في دائرتها الحق بوضع إشارة الدعوى في معرض نظرها حسب اختصاصها في مسائل التحكيم وإجراءاته، ولا يصح أن يتعدى هذا الاختصاص إلى الدعوى التي أقامها المدعى عليه بالمخاصمة بطلب تثبيت البيع وردت لعدم الاختصاص لوجود الشرط التحكيمي، وبالتالي تنسحب إشارة تلك الدعوى التي سوف تنظر أمام المحكمين. لذلك تقرر بالإجماع قبول دعوى المخاصمة موضوعاً وإبطال القرار الصادر عن الغرفة المدنية الثانية واعتباره كأنه لم يكن))[4].

ثالثاً – تعليقنا على قرار الهيئة العامة السابق ذكره

إننا وإن كنا نؤيد قرار الهيئة العامة فيما ذهبت إليه بوجوب ترقين إشارة الدعوى عند إعلان المحكمة عدم قبولها للنظر بها لوجود شرط تحكيمي، كون اختصاص وضع هذه الإشارة معقود لمحكمة الاستئناف المعرفة بالمادة /3/ من قانون التحكيم لمصلحة القضية التحكيمية.

إلا أننا نختلف اختلافاً تاماً مع الهيئة العامة باعتبارها أن تعبير رد الدعوى لعدم القبول هو تعبير مرادف من حيث الآثار القانونية لتعبير رد الدعوى لعدم الاختصاص سواء اكان ذلك عدم اختصاص موضوعي أو ولائي.

فالآثار القانونية التي يرتبها عدم قبول الدعوى مختلفة تماماً للآثار التي يرتبها الحكم بعدم الاختصاص، وهناك اختلاف كبير بين كلا المصطلحين، فعلى سبيل المثال للمحكمة أن تثير عدم اختصاصها سواء أكان نوعي أو محلي، لأن ذلك من متعلقات النظام العام، ولا يحق لأطراف النزاع التنازل عنه، فإذا قررت محكمة البت بالدعوى بالرغم من عدم اختصاصها، كأن تنظر محكمة مدنية باختصاص محكمة تجارية كان قرارها معدوماً. أما في حال قررت المحكمة عدم اختصاصها، ففي الكثير من الحالات عليها إحالة الدعوى بوضعها الراهن إلى المحكمة المختصة أصلاً، والإحالة لا يترتب عليها زوال الآثار التحفظية التي اتخذت من المحكمة غير المختصة قبل الإحالة.

أما حالة عدم قبول المحكمة للدعوى لوجود شرط تحكيمي، فهي ليست من النظام العام، ولا يحق للمحكمة أن تثيرها من تلقاء نفسها، بل يجب إثارتها من المدعى عليه حصراً، كون رفع المدعي للدعوى أمام المحكمة يعتبر تنازلاً صريحاً منه عن حقه باللجوء إلى التحكيم، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية، فإنه يحق للأطراف أن يتنازلوا عن اللجوء إلى التحكيم صراحةً أو ضمناً وعندها يحق للمحكمة الناظرة في الدعوى أن تنظر في النزاع والقرار الصادر عنها يعتبر سليماً، كما أن للمحكمة أن تبحث قبل إعلان عدم قبولها للدعوى بصحة المانع (وهو الشرط التحكيمي) الذي منعها عن النظر في الدعوى، كون منشأ هذا المانع هو الاتفاق بين الأطراف أي إرادتهم التي من الممكن أن تكون مخالفة للنظام العام أو للقانون، بينما المانع من النظر في الدعوى بحالة عدم الاختصاص هو القانون، ولا يحق للمحكمة أن تبحث بصحة عدم اختصاصها من عدمه، لوجود نص صريح بذلك، كما أنه وأخيراً في حال عدم القبول لا تتم إحالة الدعوى إلى هيئة التحكيم، بل ترد الدعوى لوجود مانع من النظر بها وهو الشرط التحكيمي، وعليه فإنه يتوجب بهذه الحالة ترقين إشارة الدعوى، كون الإشارة مرتبطة بالدعوى وجوداً أو عدماً.

خاتمة

وعليه وبنهاية هذا المقال، ممكن أن نتوصل لنتيجة مفادها، أنه على المحكمة أن تعلن عدم قبولها للنظر في الدعوى بعد توافر أمرين، وهما:

أ- الدفع بوجود الشرط التحكيمي من قبل المدعى عليه، وأن يثار هذا الدفع قبل أي دفاع أو مطلب آخر.

ب- البحث بصحة هذا الشرط إن كان باطلاً أو ملغى أو معدوم أو مستحيل التنفيذ.

وبعد تحقق هذان الأمران، على المحكمة أن تعلن عدم قبولها للدعوى، لا عدم اختصاصها، وفقاً لما ذكرناه سابقاً.

المراجع

[1] – المعجم الوسيط – الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة – الطبعة الرابعة – مكتبة الشروق الدولية – باب (الخاء) – الصفحة 328.

[2] – محكمة النقض – الغرفة المدنية الأولى – قرار /90/ – دعوى رقم أساس /130/ – تاريخ 27/08/2018.

[3] – محكمة النقض – الغرفة المدنية الثانية – القرار /1047/ – أساس /1322/ – تاريخ 14/11/2016.

[4] – محكمة النقض – الهيئة العامة المدنية – القرار /54/ – الأساس /136/ – تاريخ 16/02/2021.

يمكنكم متابعة الوثيقة أدناه، مع الرجاء الانتظار للحظات ريثما يتم تحميلها داخل الموقع:
Ahmad Mansour Article 17-12-2021
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: تنبيه: محتوى الموقع محمي !!