مُقدمة:
تغزو عملية “التحكيم” في سوريا، أخطاء شائعة كثيرة، نشأت عن الخلط بين القواعد القانونية الخاصة بإجراءات التقاضي أمام المحاكم، المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات المدنية، والقواعد الخاصة بإجراءات التحكيم المنصوص عليها في قانون التحكيم السوري رقم /4/ لعام 2008.
ولعلَّ من أكثر هذه الأخطاء شيوعاً، هي تعيين “مُقرر” لكتابة جلسات التحكيم دورهُ شبيه بدور كاتب المحكمة الذي يتولى تحرير ضبوط الجلسات والتوقيع عليها. فتسميةُ “مُقررٍ للتحكيم” من قبل هيئة التحكيم، دون أخذ موافقة صريحة من قبل أطراف التحكيم، بإنشاء وظيفة مُقرر لهذا التحكيم، تعتبر خرقاً لأهم مبدأ من مبادئ التحكيم، ألا وهو مبدأ السرية، الذي يعتبر من أهم المبادئ الأساسية لعملية التحكيم.
سنبحثُ بهذا المقال حول صحة تسمة “مُقرر” لجلسات التحكيم، على أن نبحث في المقال القادم حول مدى حُجية ضبوط جلسات التحكيم سواء بمواجهة أطراف التحكيم، أم بمواجهة الغير.
– صحة تسمية “مُقرر” لجلسات التحكيم
– قبل الحديث عن صحة تسمية مُقرر لجلسات التحكيم، لابد لنا من المرور إلى وظيفة المساعد القضائي “كاتب المحكمة” ودوره أمام المحاكم الوطنية، ومن ثم ننتقل إلى دور هذا المساعد، الذي يُسمى بالمقرر بجلسات التحكيم.
1- المساعد القضائي “كاتب المحكمة”:
تتشكل المحاكم في سورية بحسب قانون السلطة القضائية رقم /98/ لعام 1961، من هيئة قضائية فردية أو جماعية بحسب المحكمة التي تتألف منها هذه الهيئة، ومن مساعدين قضائيين لهم شروطهم الخاصة في التعيين، التي حددتها المادة /133/ من قانون السلطة القضائية.
والمساعدون القضائيون لهم وظائف مختلفة كالمحضر والكاتب وغيرهم، وما يُهمنا بهذا البحث هو دور المساعد القضائي بوظيفة كاتب الضبط، الذي يترتب على عدم تنظيمه لضبط جلسة المحاكمة، بُطلان محضر الجلسة، وفقاً لما نصت عليه المادة /42/ من قانون أصول المحاكمات المدنية رقم /1/ لعام 2016، والتي جاء فيها: ((يساعد المحكمة في جلساتها وفي جميع إجراءات الإثبات وتحت طائلة البطلان كاتب يتولى تحرير المحضر والتوقيع عليه)).
وعليه، فوظيفة “كاتب الضبط” هي وظيفة عامة، يقوم بها موظف عام يخضع في تعيينه وعمله لقانون العاملين الأساسي في الدولة، تتناسب ومبدأ علانية المحاكمة المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات /م 129/ وهذه الوظيفة أُحدثت لتُخفف العبء عن القاضي الذي ينظر بكم كبير من الدعاوى، فكان لزاماً استحداث وظيفة مساعد له، يخفف عنه بعض الأعباء التي لاتحتاج إلى معرفة قانونية، بقدر ما تحتاج إلى معرفة إدارية بآلية كتابة ضبط الجلسات، وعليه لايشترط في المساعد القضائي أن يكون حائزاً لشهادة جامعية في القانون، كون عمله منصب على الأمور الإدارية بجلسات المحاكمة، ولاعلاقة لها على الإطلاق بالأمور القانونية.
إلا أن القانون، وحفاظاً على طابع الحياد المفروض على العمل القضائي، ونظراً للخطورة الكبيرة للدور الذي يلعبه كاتب المحكمة والمساعدين القضائيين، قد رتب البطلان على كل عمل يقوم به المساعدون القضائيون في حدود وظائفهم في الدعاوى الخاصة بهم أو بأزواجهم أو أقاربهم أو أصهارهم حتى الدرجة الرابعة، حيث نصت المادة /51/ من قانون أصول المحاكمات المدنية على أنه: ((لايجوز تحت طائلة البطلان للمحضرين ولا للكتبة وغيرهم من مساعدي القضاء أن يباشروا عملاً يدخل في حدود وظائفهم في الدعاوى الخاصة بهم أو بأزواجهم أو أقاربهم أو أصهارهم حتى الدرجة الرابعة)).
2- كاتب جلسات التحكيم “المُقرر”:
جرت العادة بمعظم الدعاوى التحكيمية التي تجري في سورية، أن يقوم رئيس هيئة التحكيم، بتسمية “مُقرر” للتحكيم، وذلك بإرادة منفردة من قبله وقبل مراجعة أطراف التحكيم بهذه التسمية.
والحقيقة أنَّ العودة إلى أطراف التحكيم عند تسمية “مُقرر” للتحكيم، ليس غايتها الموافقة على شخص “المُقرر” المُسمى، بل الموافقة على إنشاء وظيفة مُقرر للتحكيم، قبل القيام بتسمية “مُقرر” للتحكيم، ومرد ذلك، أن المشرع وحفاظاً منه على خاصية السرية الملتصقة بالتحكيم، قد ألزم هيئة التحكيم على أن تكون جلسات هيئة التحكيم سرية إلا إذا اتفق أطراف التحكيم على خلاف ذلك (المادة 29 فقرة 3 من قانون التحكيم) أي لايجوز أن يحضر هذه الجلسات من ليس طرفاً في التحكيم، ومن ليس عضواً في هيئة التحكيم حفاظاً على هذه السرية.
فالتحكيم من حيث المبدأ ملكٌ لأطرافهِ، ولايجوز أن يُفرضَ عليهم شخص من خارج الدعوى التحكيمية ليقوم بوظيفة “مُقرر” لجلسات التحكيم، تُخرق أمامهُ السرية المفترضة على عملية التحكيم، حيث يستطيع هذا الشخص بحكم وظيفته كمقرر، أن يطلع على كافة الأوراق والوثائق المتعلقة بالتحكيم، وبما يدور داخل جلسات التحكيم المغلقة، مايفترض أنها جلسات سرية غير معدة لاطلاع الغير عليها.
وبالعودة إلى قانون التحكيم، لايوجد أي نص متعلق بتسمية “مُقرر” للتحكيم، بل على العكس تماماً، نجد أن تعريف هيئة التحكيم قد جاء خالياً من وجود مساعد لهذه الهيئة، فقد عرفت المادة /1/ من قانون التحكيم أن هيئة التحكيم هي الهيئة المشكلة من محكم واحد أو أكثر للفصل في النزاع المحال للتحكيم وفقاً لشروط اتفاق التحكيم، كما نجد بذات القانون أن عملية تدوين محاضر جلسات التحكيم، أنيطت بهيئة التحكيم، وفقاً لما جاء بالمادة /29/ الفقرة /4/ من قانون التحكيم التي جاء فيها: ((تكون وقائع وجلسات التحكيم بمحضر يوقع عليه أعضاء هيئة التحكيم وطرفا التحكيم الحاضران أو وكلاؤهم، وتسلم صورة منه إلى كل من الطرفين مالم يتفقا على غير ذلك)) وذلك دون الإشارة على إلزامية توقيع كاتب جلسات التحكيم على هذه المحاضر بعكس ماهو أمام المحاكم الوطنية.
فلا حاجة لتوقيع المُقرر لجلسات التحكيم لصحة هذه الجلسات من عدمها، وإن استجداء نصوص قانون أصول المحاكمات المدنية الخاصة بتنظيم المحاكم، وتطبيقها على إجراءات التحكيم بهذا الشأن، هو أمرٌ يُفرغ عملية التحكيم من جوهرها الأساسي ألا وهو طابع السرية الذي يجب أن تتسم به، وإن القول بأن وجود كاتب للمحكمة هو أمر من النظام العام، يترتب على عدم وجوده بطلان الإجراءات، هو قول فاقد لكل قيمة قانونية، ولكل رأي قانوني لايفرق بين قواعد النظام العام المجردة، والقواعد الآمرة التنظيمية التي تخص الشريحة الموجه إليها خطاب المشرع، فقواعد قانون أصول المحاكمات المدنية هي قواعد إجرائية تنظيمية وإلزامية للمحاكم خلال عملها، وذلك من أجل توحيد الإجراءات المتبعة أمام هذه المحاكم، وهذا مانصت عليه الأسباب الموجبة للمرسوم التشريعي رقم /84/ لعام 1953، والذي تضمن قانون أصول المحاكمات المدنية، حيث جاء بالأسباب الموجبة لهذا المرسوم مايلي: ((جاء هذا المشروع في مجموعه بأحكام متناسقة ونافذة على جميع المحاكم بداية وصلح وشرعية وقضاء الأمور المستعجلة ورمت الوزارة من ذلك توحيد الأحكام بين جميع المحاكم حتى يسهل على المتقاضين سلوك طرق التقاضي دون أن يخشوا مغبة الاختلاف في الإجراءات المقررة لديها فيما ليس له طائل)).
وعلى ماذكر، لاتستوجب عملية التحكيم من بدايتها إلى نهايتها، وجود مُقرر لجلسات التحكيم، وإن اعتبار النص الملزم بضرورة وجود مساعد قضائي للمحكمة يدون محاضر الجلسات بقانون أصول المحاكمات المدنية، لايمكن تطبيقه على إجراءات التحكيم، لاختلاف المُخاطب بهذا النص، والفرق شاسع بين محكمة وطنية تخضع في تشكيلها لقانون السلطة القضائية وقانون أصول المحاكمات ولمبدأ لعلانية المحاكمة، وبين هيئة تحكيم تنشأ وتخضع إرادة الأطراف، ويحكمها مبدأ سرية المحاكمة.
وإن كنا اعتبرنا تسمية “مُقرر” للتحكيم من قبل هيئة التحكيم، وسكوت أطراف التحكيم عن هذه التسمية، بمثابة القبول الضمني لإنشاء وظيفة المُقرر وتسمية شخص محدد لهذه الوظيفة، فلا يمكننا على الإطلاق اعتبار اعتراض أحد أطراف التحكيم على وجود مُقرر لجلسات التحكيم، هو أمرٌ مخالف للنظام العام الذي يوجب وجود كاتب للضبط مساعد للقاضي في عمله، فشتان بين هذا وذاك.
المحامي أحمد وليد منصور
ماجستير قانون الأعمال الدولي والداخلي
عضو لجنة الوسائل البديلة لحل النزاعات لدى غرفة التجارة الدولية
عضو مركز دبي للتحكيم التجاري الدولي