مقالات وأبحاث

واقع مراكز التحكيم وآفاق المستقبل …

| القاضي الدكتور محمد وليد منصور

التحكيم في سورية ليس ظاهرة جديدة ابتدعها القانون رقم /4/ لعام 2008، بل هو عرفٌ أصيل تم تقنينه منذ أكثر من مئة عام، نصت عليه مجلة الأحكام العدلية[1]، ومن ثم قننه قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر بالمرسوم التشريعي /84/ لعام 1953 [2]، إلى أن صدر قانون خاص ومستقل بالتحكيم ينسجم مع متطلبات تطور الفكر التحكيمي العالمي.

ويعتبر تشريع (التحكيم المؤسساتي) من خلال إنشاء مراكز تحكيم سورية، من أهم النقاط التي استحدثها هذا القانون، ولكن يبقى السؤال هل حققت هذه المراكز الغاية المرجوة منها؟ وهل استطاعت بالفعل استقطاب قضايا تحكيمية نوعية داخلية ودولية؟ ولماذا اقتصر دور معظمها على تنظيم دورات تحكيم محلية، أفقدتها الغاية الرئيسية لتشريع عمل هذه المراكز ألا وهي استلام قضايا تحكيمية نوعية ليتم إدارج هذه المراكز ضمن نخبة المراكز العربية والعالمية.

أولاً- تأسيس المراكز التحكيمية حسب القانون /4/ لعام 2008:

لكل شيء بداية، وأن تقف سورية مكتوفة الأيدي أمام التطور القانوني بمجال التحكيم العربي والدولي، هو أمرٌ لايتفق مع دولة كانت من أوائل الدول العربية التي امتلكت نظاماً تشريعياً قانونياً متطوراً، وخاصةً أن التحكيم أصبح نوعاً من الصناعة له أنظمته وقوانينه ومؤلفاته. كما تحولت بعض المدن إلى عواصم للتحكيم نظراً لنشأة مراكز تحكيمية مهمة فيها اكتسبت مع مرور الزمن ثقة المتعاملين في التجارة الدولية. وتقوم هذه الدول من خلال قوانينها وشركاتها بدعم مراكز التحكيم المتواجدة فيها لما في ذلك من مردود عليها من حيث السمعة والمكانة والتأثير والعائد المادي. كما أن صناعة التحكيم لها أثر في مكانة الدولة في مؤشر التنافسية الدولية. ولذلك تسعى الدول إلى إنشاء مراكز تحكيم نوعية ودعمها بالأطر المؤهلة حتى تتواجد على خريطة التحكيم العالمية.

ومن القانون /4/ لعام 2008، كانت البداية[3]، وكون كل جديد لا تظهر عيوبه إلا مع التطبيق العملي، كان إتاحة الفرصة للجميع وفق الضوابط التشريعية الموضوعة بقانون التحكيم، هي إحدى مزايا قانون التحكيم، الذي استقطب منذُ صدوره وحتى يومنا هذا أكثر من /70/ مركزاً للتحكيم.

كانت الغاية للترخيص لهذا الكم الكبير من المراكز بالعمل في مجال التحكيم، يقوم على مبدئين أساسيين، انتهجتهما وزارة العدل في تلك الفترة، وهما:

1- نشر الثقافة التحكيمية في المجتمع القانوني السوري، الذي يعتبر التحكيم المؤسساتي جديداً عليه.

2- توفير المناخ الملائم للتنافسية بين هذه المراكز، وذلك يدفع هذه المراكز لتطوير أنظمتها الداخلية وإيجادها لآليات تستقطب من خلالها دعاوى تحكيمية هامة، يترتب معها في المستقبل اندماج هذه المراكز فيما بينها لتشكيل مركز نوعي قادر على أن يكون نقطة تحول هامة على صعيد التحكيم السوري.

إلا أنه وخلال التطبيق العملي، وجدت العديد من الثغرات بنظام السماح غير المشروط لتأسيس المراكز التحكيمية، أفقد هذه المراكز الغاية التي أسست لأجلها، ألا وهي إيجاد مركز تحكيم قانوني معتمد ونوعي قادر على استقطاب القضايا التحكيمية الداخلية والدولية الهامة.

ولكي لانلقي اللوم على المراكز التحكيمية بالمطلق، فيجب أن نكون محيطين وملمين بالمناخ القانوني الذي وضعت فيه الجمهورية العربية السورية خلال فترة الأزمة التي ابتدأت في العام 2011 ولاتزال ترخي بظلالها عليها، وماتسبب به هذا المناخ بخلق حاجز اسمنتي متين بوجه الاستثمارات الخارجية.

ثانياً- المشاكل العملية للتحكيم المؤسساتي في سورية:

مع مرور أكثر من /14/ عاماً على صدور قانون التحكيم، نجد أن عمل غالبية مراكز التحكيم في سورية لايزال هشاً وضعيفاً، وأن الغاية المتوخاة من إفساح المجال للتحكيم المؤسساتي لم تتم ترجمته على أرض الواقع بشكل صحيح، وخاصةً لو عملنا استبيان وتابعنا عدد القضايا التي تنظرها المراكز التحكيمية مقارنةً مع الدعاوى التحكيمية المنظورة أمام هيئات تحكيمية مستقلة (Ad Hoc) لوجدنا أن النسبة لا تتعدا 1%[4] وهي نسبة منخفضة جداً، ومن أهم أسباب انخفاضها مايلي:

1- كما ذكرنا سابقاً وضع البلد الأمني خلال فترة الأزمة، أدى إلى تقليص الاستثمار في الداخل والخارج.

2- تحول العديد من مراكز التحكيم إلى مراكز تدريب وتأهيل للمحكمين، متخلين عن دورهم الأساسي بممارسة قضايا تحكيمية عملية.

3- معظم مراكز التحكيم لا تملك نظام داخلي إجرائي متين، قادر على تغطية كافة الإشكالات التي تظهر خلال التحكيم.

4- الخطأ في فهم فكرة التحكيم المؤسساتي، حيث يلجأ معظم الأفراد بمراكز التحكيم إلى تسمية أنفسهم بشكل شخصي بعيداً عن مركز التحكيم الذي يمثلونه، ما يسمى بشخصنة التحكيم، وذلك كي يتهربوا من النفقات المترتبة للمركز في حال اعتماد قواعده وإجراءاته.

5- وجود نسبة لابأس بها من مدراء ورؤساء المراكز التحكيمية، على غير سوية قانونية بمجال التحكيم تؤهلهم للعب هذا الدور، مايتسبب بأخطاء كارثية خلال قيام عملية التحكيم، بسبب نقص الخبرة العملية والعلمية لهؤلاء.

ثالثاً- ماهي الحلول المقترحة:

مامن شك أن وزارة العدل قد ابتدأت باتخاذ إجراءات صارمة نوعاً ما بحق بعض المراكز الغير مؤهلة لأخذ دور مركز تحكيمي، إلا أنه لايزال هناك خلل شديد، بعملية التحكيم المؤسساتي، وتقصير من الدولة اتجاه هذا القطاع الحيوي الهام، الذي أصبح صناعة هامة تدر على الدول ملايين الدولارات من خلال استقطابها للعديد من القضايا التحكيمية يلجأ إليها الأطراف لثقتهم بمراكز التحكيم بهذه الدول.

فإنشاء صناعة وطنية للتحكيم يسبغ على الدولة قيمة مضافة، سواء من حيث السمعة المكتسبة للدولة أو من حيث المردود المادي الذي يعود عليها من خلال عمليات التحكيم التي تتم على أراضيها، وإن إحالة كل قضايا التحكيم المفترض معالجتها في الدولة إلى مراكز تحكيم أجنبية يعني حرمان الدولة من كل هذه المزايا والمكتسبات وتحول مركز التحكيم الوطني إلى مجرد وسيط يقتصر دوره على إحالة قضايا التحكيم في الدولة إلى ذلك المركز الأجنبي.

ومن المعروف للشاغلين بالتحكيم عدد القضايا التي تنظرها محكمة التحكيم الدولية بباريس التابع لغرفة التجارة الدولية (ICC) ومحكمة لندن للتحكيم الدولي (LCIA) على سبيل المثال.

وقد تنبهت دولة الإمارات إلى أهمية التحكيم الوطني وضرورة توحيد طاقاته وتعزيزها، لإنشاء مركز وطني للتحكيم يستقطب قضايا تحكيمية هامة، فصدر المرسوم رقم /34/ لعام 2021 عن سمو الشيخ محمد بن راشد نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، والقاضي بدمج اختصاصات وصلاحيات «مؤسسة التحكيم في مركز دبي المالي العالمي» و«مركز الإمارات للتحكيم البحري» ضمن «مركز دبي للتحكيم الدولي»، هيئة مستقلة دائمة غير ربحية تهدف إلى توفير خدمات التحكيم التجاري وتسوية النزاعات التجارية إقليمياً ودولياً.

وفي سورية، فنجد أولى المحاولات التشريعية بتوجيه إحداث مركز للتحكيم، كان عن طريق قانون الاستثمار رقم /18/ لعام 2021، حيث جاء في المادة /35/ منه على مايلي: (( في التحكيم الداخلي: أ- يحدث لدى اتحاد غرف التجارة السورية مركز تحكيم مستقل يسمى “مركز اتحاد غرف التجارة السورية للتحكيم” ب- يختص المركز بالنظر في المنازعات المدنية والتجارية الناشئة عن الاستثمار وذلك في حال اتفاق الطرفين على اللجوء إلى التحكيم أمامه. ج- يضع اتحاد غرف التجارة السورية النظام الداخلي للمركز، ونظام التحكيم أمامه وفقا للقواعد التي يحددها قانون التحكيم النافذ بما لا يتعارض مع أحكام هذا القانون )).

إلا أن هذا المركز لم يرَ النور حتى أيامنا هذه، بالإضافة إلى عدم اعتبار القائمين على غرف التجارة، بأن التحكيم بات ضرورة ملحة يجب أن يتم العمل على تقويتها وإعطائها الأولوية اللازمة، لا أن يتم التعامل معها بتراخي وكنوع من الترف القانوني.

وفي النهاية، لابد لنا من القول، أنه يجب إعداد خطة قانونية تنظم آلية عمل التحكيم في سورية، وإجراء تعديل على قانون التحكيم لأن عيوبه باتت ظاهرة وجلية ويتوجب تداركها، وخاصةً المتعلق منها بشروط وآلية عمل المراكز التحكيمية.

[1] – فقد نصت المادة /1790/ من مجلة الأحكام العدلية على مايلي: (التحكيم هو عبارة عن أن اتخاذ الخصمين حاكماً برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما) ونصت المادة /1849/ على مايلي : (إذا عرض حكم المحكم على الحاكم المنصوب من قبل السلطان صدقه إذا كان موافقاً للأصول وإلا نقضه).

[2] – نص هذا القانون على قواعد إجرائية للتحكيم قننها بالمواد من 506 إلى 534 ولاتزال هذه المواد سارية المفعول بالنسبة لاتفاقات التحكيم المبرمة قبل نفاذ قانون التحكيم رقم 4 لعام 2008 سواء أكانت إجراءات التحكيم قد بوشرت أم لم تباشر.

[3] – عملاً بأحكام القانون رقم /4/ لعام 2008، فقد تم تشكيل لجنة بقرار من وزير العدل، تنظر بطلبات التأسيس والإشهار لمراكز التحكيم، وعليه يقدم طلب التأسيس إلى وزارة العدل ويودع في ديوان الوزارة ليعرض على لجنة التأسيس والإشهار المؤسسة لهذه الغاية، ويجب أن يكون المدير حسب القانون أن يكون سورياً منذ خمس سنوات على الأقل ومقيماً فيها، غير محكوم بجناية أو جنحة،  وحائز على إجازة في القانون وممارس للعمل القانون أو القضائي مدة لاتقل عن /15/ عاماً، يجب أن يحتوي الطلب على اسم المركز وأهدافه، والهيكل التنظيمي والإداري له، والخدمات التي يقدمها، والمؤهلات القانونية للمحكمين المعتمدين لديه، وأسس تقدير أتعاب التحكيم ونفقاته، يعرض هذا الطلب على وزير العدل بعد تقديم رأي اللجنة فيه بالقبول أم عدم القبول، ويجب أن يتم ذلك خلال مدة /60/ يوماً، في حال القبول يشهر المركز بقرار من الوزير، وفي حال الرفض، يخضع هذا القرار للطعن امام القضاء الإداري في مجلس الدولة.

[4] – تم إجراء إحصائية بمجهودات شخصية من مكتب منصور للمحاماة، وذلك من خلال جمع القرارات الصادرة عن محاكم الاستئناف المتعلقة بالتحكيم بمحافظات دمشق وريف دمشق وحمص وحلب وتبين أن معظم دعاوى الاكساء بنسبة 99% موجهة لقرارات تحكيم خاضعة للتحكيم المستقل، وهذه الإحصائية قد لاتكون دقيقة 100% إلا أنها تعطي مؤشر هام عن توجه التحكيم في سورية.

يمكنكم متابعة الوثيقة أدناه، مع الرجاء الانتظار للحظات ريثما يتم تحميلها داخل الموقع:
Article 10-2-2022
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: تنبيه: محتوى الموقع محمي !!