أولاً- مظاهر التقارب الالتقاء بين المحكم والقاضي
١- الاختصاص بالاختصاص: حيث أن كل من المحكم والقاضي يختص بالفصل في دفوع تتعلق باختصاصه أو في مسألة لازمة للفصل في القضية المنظورة أمامه .
ويرى جانب من الفقه أن هذا المبدأ أصبح من المبادئ المعترف عليها عالمياً والأكثر شيوعاً في التطبيق العملي في مجال التحكيم .
وضمن هذا الإطار نصت الفقرة (1) من المادة/21/ من قواعد التحكيم التي وضعتها لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي –نيويورك 1984- على أن «هيئة التحكيم هي صاحبة الاختصاص على الفصل في الدفوع الخاصة بعدم اختصاصها, وتدخل في ذلك الدفوع المتعلقة بوجود شرط التحكيم أو الاتفاق المنفصل على التحكيم أو بصحة هذا الشرط أو هذا الاتفاق».
٢- التزام المحكم والقاضي بمراعاة حقوق الدفاع الأساسية للخصوم: ومثال هذه الحقوق والضمانات التي يجب أن تمنح لأطراف النزاع, كفالة حق الدفاع لكلٍ من الطرفين وأن يعاملا على قدم المساواة وأن تتاح فرصة متكافئة لكل منهما في عرض دعواه وطلباته وتقديم مستنداته واحترام مبدأ المواجهة يقتضي أن تتاح للخصم الآخر فرصة الاطلاع والتعقيب والرد على دفاع ومستندات خصمه .
ويؤكد جانب من الفقه على أن للتحكيم طبيعة قضائية وأنه يسير موازياً لقضاء الدولة وأن وظيفة المحكم تتطابق مع مهمة القاضي .
٣- يجوز أن يتنحى المحكم من تلقاء نفسه عن نظر التحكيم مثل القاضي: وضمن هذه الحالة نجد أنه إذا كان التنحي متروك لتقدير المحكم المطلق ولا يخضع لمراجعة أو تصديق, فإن المشرع رأى تعليق رغبة القاضي في التنحي على إقرار المحكمة أو رئيسها حتى لا يكون هذا التنحي وسيلة لعدم أداء القاضي لواجبه في نظر الدعوى .
٤- مراعاة الالتزام بسرية المداولة: يتفق التحكيم والقضاء في أن المداولة التي تتم بين المحكمين أو بين القضاة تكون سرية, ويلتزم المحكم والقاضي بعدم إفشاء سرية المداولة. وهناك تسليم راسخ بضرورة إجراء مشاورات بين المحكمين قبل إصدار حكمهم .
٥- تمتع الحكم الصادر من المحكم والقاضي بحجية الأمر المقضي: فحكم التحكيم يتمتع بخصائص الحكم الصادر من المحكم والقاضي بحجية الأمر المقضي ويكون واجب النفاذ بمراعاة ما تطلبه القانون من شروط .
ثانياً – أوجه الاختلاف والتباعد بين المحكم والقاضي
١- لا يشترط في المحكم مؤهلات قانونية خاصة بعكس القاضي, وكذلك الحال بالنسبة للأهلية القانونية حيث يشترط بالنسبة للقاضي إضافة لشرط الأهلية أن يكون في سن محدد يجب أن لا يقل عنه.
٢- حرية المحكم في القيام بأعمال أخرى بجانب التحكيم بعكس القاضي لما كان القضاء وظيفة عامة لذلك كان من المتوجب على من يعمل فيه أن يتفرغ للقيام بها ويبتعد عن أي عمل آخر من شأنه أن يؤثر على تفرغ القاضي واستقلاله, في حين أن المحكم يقوم بعمل مؤقت لا يمكن أن يعتمد عليه كمورد رزق ولذلك فالأصل أن المحكم يقوم بعمل آخر بجانب التحكيم وغالباً ما يكون عمل قانوني أو متصل بالتجارة الدولية.
٣- القاضي يحلف اليمين القانونية قبل مباشرته مهمته وفق قانون السلطة القضائية وذلك بعكس المحكم الذي لا يلتزم بذلك ولكن يجوز للأطراف الاتفاق على تحميل المحكم بذلك.
٤- قبول المحكم أداء مهمته كتابة بعكس القاضي, وقد يكون مرجع ذلك أن مهمة المحكم لها طابع مؤقت بعكس وظيفة القاضي ولذلك يتعين بالنسبة للمحكم تنظيم كل وضع تحكيم على حدة.
٥- لا يتمتع المحكم بما يتمتع به القاضي من سلطة الأمر والقسر ولذلك يطلب المحكم المساعدة من القضاء الوطني على الرغم من وجود اتفاق التحكيم. وهذا الواقع يؤكد أن هناك نوع من التكامل والتعاون بين كل من المحكم والقاضي, إذ لم تعد العلاقة بين القضاء الخاص المستند إلى إرادة الأطراف والقضاء الذي من خلق الدولة, علاقة تنافسية كما كان الحال في العديد من الدول في فترات سابقة وإنما أصبحت علاقة تعاون تام بين كلٍ من القضاءين يصل في الكثير من الأحيان إلى حد التكامل وهو ما يظهر بصورة أوضح بصدد تنفيذ أحكام التحكيم الصادر عن المحكم.
٦- سلطات المحكم في حسم النزاع أكثر اتساعاً من سلطة القاضي, فالقاضي في الواقع موظف عام في مرفق العدالة وفي مقدمة واجباته الأساسية تطبيق حكم القانون تطبيقاً صحيحاً بصرف النظر عن موقف الخصوم وهو يخضع في ذلك لرقابة محكمة النقض.
أما المحكم فإن اختياره يعتمد على رضاء الخصوم به وعلى أساس هذا الرضا يتم تحديد السلطة التي يتمتع بها المحكم.
وضمن هذا الإطار فإما أن يعهد للمحكم بحسم النزاع استناداً إلى حكم القانون وفي هذه الحالة عليه أن يتقيد بحكم القانون من كافة النواحي بصرف النظر عن تقديره الشخصي لمدى عدالة النتائج التي توصل إليها كما يفعل القاضي ويسمى التحكيم في هذه الحالة التحكيم بالقانون.
أما الحالة الثانية فهي تتمثل في أن يرتضي الطرفان المحكم صلاحية الفصل في النزاع وفقاً لما يراه محققاً للعدالة وصولاً إلى حكم يحفظ التوازن بين مصالحهما حتى ولو كان في هذا الحكم مخالفة لأحكام القانون التي تحكم وقائع النزاع والتي يلتزم القاضي بتطبيقها فيما لو عرض النزاع عليه. ويسمى التحكيم في هذه الحالة التحكيم بالصلح أو التحكيم وفقاً لقواعد العدالة والإنصاف. والتحكيم بالصلح يلزم المحكم بأن يبحث عن الحل الذي يكون الأكثر قبولاً من الطرفين ومن هنا فإن المحكم يجب أن يراعي في حكمه إرادة الطرفين الضمنية في أن يستمرا في التعاون معاً ولذلك فإن المحكم يبحث عن حل وسط يحقق العدالة المبصرة التي تراعي الظروف الشخصية لطرفين بعيداً عن عدالة القانون العمياء التي تطبق القانون بمعيار موضوعي مجرد, لأنها عدالة في محيط التجارة الدولية, ومن ثم فإن حل النزاع على نحو من شأنه القضاء على العلاقات الودية بين الطرفين في المستقبل سوف يترتب عليه إصابة الطرفين بأضرار لا يمكن تجاهلها .
واستناداً إلى هذه المفاهيم, فقد أصبح القضاء الوطني والتحكيم الدولي لا يقومان بنفس الدور في تسوية منازعات العقود الدولية للإنشاءات وذلك لأن سيطرة وغلبة التحكيم كوسيلة لفض منازعات هذه العقود ليست في حاجة إلى تبرير بحيث أصبح المحكم الدولي على حد قول أحد الفقهاء هو القاضي الطبيعي لهذه العقود حيث يقوم التحكيم بفض حوالي 90% من منازعات العقود الدولية للإنشاءات.
٧- عدم سريان جريمة إنكار العدالة على المحكم بعكس القاضي, وضمن هذا النهج فإن الحكومة لا تسأل عن عمل المحكم لأنها لا تسأل إلا عن أعمال تابعيها وهو ليس تابع لها.
ولا يجوز تطبيق جريمة إنكار العدالة على المحكم على أساس القياس لأنه يؤدي وظيفة قضائية ويعد في حكم الموظف العام في جريمة الرشوة, ومرجع ذلك قاعدة أصولية في القانون الجنائي تقضي بعدم جواز التوسع في تفسير النص الجنائي أو القياس عليه.
٨- يجوز إقالة المحكم باتفاق الأطراف بعكس القاضي, ويمكن أن يتم ذلك في أي مرحلة من مراحل سير خصومة التحكيم طالما لم يصدر الحكم بعد حتى ولو لم تتوافر أي ظروف من شأنها أن تثير شكوكاً حول حيدته أو استقلاله. وذلك بعكس الوضع القانوني للقاضي, إذ لا يملك الخصوم بالاتفاق على عزل القاضي.
٩- يشترط في القاضي الصفة الوطنية بعكس المحكم, حيث نجد أن الغالبية العظمى من الدول تشترط في القاضي التمتع بالجنسية الوطنية باعتبار أنه يؤدي وظيفة عامة في مرفق العدالة وباعتبار أن ذلك مظهر من مظاهر السيادة التي تحرص عليها الدول. وذلك بعكس الذي يمكن أن يكون أجنبياً.
١٠- خضوع القاضي لنظام قانوني لا يخضع له المحكم وذلك بهدف كفالة الأمن والطمأنينة له أثناء تأدية عمله وهو يؤدي وظيفة القضاء باسم عدالة الدولة.
وهذا النظام لا يسري على المحكم ولا يستفيد منه إذ أنه يؤدي مهمة مؤقتة باتفاق ورضاء الأطراف في مقابل أتعاب متفق عليها. ولذلك فإن المحكم لا يستند إلى ما يدعم القاضي من حصانة ودوام واستقرار حتى لو كان يؤدي عمله في إطار هيئة دائمة للتحكيم.
١١- خضوع القاضي لنظام دعوى المخاصمة بعكس المحكم. فالقانون يرسم قواعد خاصة لمسؤولية القضاة المدنية عن أعمالهم تهدف لحماية القاضي عن طريقتين:
الأولى: تحديد الحالات التي يسأل فيها القاضي مدنياً على خلاف الفرد العادي.
الثانية: رسم إجراءات معينة لخصومة قضائية لا تخضع لكل القواعد العامة وتسمى في الاصطلاح القانوني دعوى المخاصمة. إن هذه القواعد والضمانات لا يستفيد منها المحكم.
١٢- اختلاف نظام رد القاضي والمحكم, وسبب ذلك يرجع إلى أن المحتكم هو الذي اختار المحكم فلا يجوز طلب رده إلا إذا اكتشف في وقت لاحق وجود سبب من شأنه أن يؤثر على حياد المحكم واستقلاله بينما الخصم لا يعرف القاضي أو يوافق على اختياره لذلك يمكن طلب رده في أي وقت قبل قفل باب المرافعة .
ويجسد الخلاف بين الطريقتين بعبارة موجزة بعض الفقهاء قائلاً إن التحكيم أداة خصوصية للفصل في النزاع ويتشكل في كل حالة على حده حسب المقتضيات الخاصة بالنزاع, أما القضاء فهو طريق عام لحماية الحقوق والمراكز القانونية تحكمه قواعد عامة مجردة موضوعة سلفاً لأية قضية.